أعتقد أنه لا يوجد أحد لم يسمع جملًا مثل "لن تنزل إلى طفولتي يا دكتور؟"، "نحن بحاجة إلى النزول إلى طفولتك"، "لننزل إلى طفولتك الآن" ". على الرغم من أن التعبير الشهير "العودة إلى طفولتك"، والذي كثيرا ما نصادفه مع الفكاهة في المسلسلات التلفزيونية والأفلام والرسوم المتحركة والمحادثات مع الأصدقاء إذا كنت طبيبا نفسيا أو طبيبا نفسيا، كثيرا ما يستخدم بطريقة فكاهية، إلا أنه في الواقع يعكس حقيقة مهمة وهي مقبولة من قبل الجميع تقريبا. والحقيقة أن طفولتنا لها تأثير على شخصيتنا وعواطفنا وأفكارنا وحتى سلوكياتنا اليوم. أود أن أعود بهذه الحقيقة إلى الوراء وأتحدث إليكم عن مدى تأثير مرحلة الطفولة والعلاقة التي نشأت مع الأم خلال هذه الفترة على الفرد.
إن أول عامين من الحياة هي فترة حرجة للغاية حيث ينمو دماغنا بمعدل جنوني، وتزداد خلايا دماغنا بسرعة، ويتم بناء أسس نظام التفكير والعاطفة والسلوك في دماغنا في هذه الفترة الحرجة. وبما أن الأم هي الشخص الذي يقضي معظم الوقت مع الطفل ويلبي احتياجاته الجسدية والعاطفية في أول عامين، يقال إن العلاقة التي تنشأ مع الأم خلال هذه الفترة تؤثر على حياة الفرد بأكملها. إذن، هل الأمر كذلك حقًا؟ دعونا نرى ما يقوله العلم عن هذا.
نعلم أن الفئران تستخدم في العديد من الدراسات العلمية لأن أنظمتها البيولوجية تشبه نظام الإنسان. هناك أيضًا معلومات قيمة جدًا حصلنا عليها من تجارب الفئران في سياق العلاقة بين الأم والرضيع. على سبيل المثال، كلما لعقت الفأرة الأم طفلها ومداعبته وقضت وقتًا أطول معه خلال فترة الولادة، انخفضت هرمونات التوتر لدى الفأر الصغير. هذه الفئران، التي تتلقى المزيد من الاتصال الدافئ من أمهاتها، تظهر سلوكًا أقل عدوانية عندما تكبر من الفئران التي لا تتلقى اتصالًا كافيًا من أمهاتها. وليس هذا فحسب، بل إن لمسات الأم الحنونة تنتقل بين الأجيال، كما أن الفئران التي تتلقى رعاية جيدة من أمهاتها تقدم رعاية أفضل لنسلها عندما تصبح هي نفسها أمهات في المستقبل. ما أريد أن ألفت انتباهكم إليه في هذه التجارب هو مفهوم "الرعاية الجيدة". وما نعنيه بالرعاية الجيدة هنا هو السلوك الأمومي الذي يلبي الاحتياجات العاطفية للطفل ويجعله يشعر بالأمان بلمساته الدافئة والناعمة. بالطبع لا ينبغي للطفل أن يبقى على قيد الحياة. الشرط الوحيد للطفل هو تلبية احتياجاته الجسدية وإطعامه وحمايته من الظروف الخارجية السلبية، لكن يبدو أن هذا لا يكفي لكي يتعلّق الطفل بأمه، أي أن يرى الأم على أنها " الأم". سيكون من الجيد أن نتحدث عن تجربة هارلو الشهيرة هنا. في هذه التجربة، التي أرست أسس نظرية التعلق، يقوم هارلو بتربية القردة الصغيرة بمفردها في قفص. ويقدم للطفل في القفص خيارين مختلفين للأم في أوقات معينة من اليوم. إحداهما أم مصنوعة من المعدن ولكن لديها زجاجة رضاعة على صدرها ولا تطعم إلا القرد الصغير، والأخرى أم مصنوعة من القطيفة الناعمة الدافئة التي لا تعطي الحليب ولكنها تخلق شعوراً بالأمان لدى الطفل قرد. النتائج التي توصلت إليها التجارب مذهلة للغاية. عندما يتم إطلاق سراح القرد الصغير، فإنه يستخدم الأم السلكية فقط لإطعام نفسه، ويقضي بقية وقته في حضن الأم القطيفة، على الرغم من أنها لا تعطيه الحليب. هارلو غير راضٍ عن هذا، فهي تخيف القرد الصغير بوحش اصطناعي لمعرفة الأم التي يرتبط بها أكثر وترى أي أم سيذهب إليها عندما يكون خائفًا. يتفاعل الشبل بخوف شديد عندما يرى الوحش ويركض ويحتمي بالأم القطيفة. تكشف هذه التجربة أن تلبية الاحتياجات الجسدية مثل التغذية ليست كافية للطفل الرضيع ليرتبط بأمه بشكل آمن، وأن الشيء الأكثر أهمية هو إظهار أمومة دافئة وحنونة تجعل الطفل يشعر بالأمان.
مرة أخرى، تشير العديد من الدراسات التي أجريت على البشر إلى أن العلاقة التي تنشأ مع الأم في السنوات الأولى من الحياة ترتبط بمشاكل الطفل السلوكية وعلاقات الأصدقاء وحتى النجاح المدرسي في السنوات التالية. كيف تؤثر العلاقة التي نشأت مع الأم أثناء مرحلة الطفولة على نجاح الطفل في المدرسة بعد سنوات؟ إذا كنت تتذكر تجارب الفئران التي ذكرتها في البداية، فقلت إن الاتصال الدافئ الذي توفره الأم للطفل يقلل من هرمونات التوتر. هرمونات التوتر هذه هي أيضًا هرمونات لها تأثير مدمر على الذاكرة والتعلم. ويعتقد أن العلاقة بين الأم والطفل تؤثر على نجاح الطفل من خلال هذه الهرمونات. بالإضافة إلى ذلك، العلاقات التي نبنيها في حياتنا البالغة، واختيارنا للأزواج، وسلوكيات الأبوة والأمومة التي نظهرها تجاه أطفالنا. هناك العديد من الدراسات التي تظهر أننا نتأثر بالعلاقة التي كانت تربطنا بأمهاتنا في طفولتنا وبأسلوب تعلقنا.
بالطبع الإنسان كائن متعدد الأوجه؛ تؤثر العائلة والأصدقاء والمدرسة والعمل والعديد من البيئات الاجتماعية الأخرى على الناس. لن يكون من الصواب أن نستنتج من كل هذه الدراسات أنه إذا كانت العلاقة بين الأم والرضيع جيدة، فسيكون كل شيء جيدًا، وإذا كانت سيئة، سيكون كل شيء سيئًا. ومع ذلك، يبدو أن المستقبل يتم بناؤه بالقليل من الماضي.
قراءة: 0